أئمة العالم القروي يتأرجحون بين الوضع الجديد والارتهان لمزاجية "الجماعة"

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

رغم الجهود المبذولة للنهوض بالوضعية المادية والاجتماعية وكذا الإدارية للقيمين الدينيين بالمغرب من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، التي أصبحت تملك الاختصاص الحصري في تعيينهم أو إعفائهم من مهامهم، إلا أن بعض المهتمين والفاعلين في هذا المجال يسجلون استمرار ارتهان أئمة وفقهاء عدد من مساجد المملكة، خاصة في العالم القروي، إلى أهواء ومزاجية “الجماعة”، التي ما إن ينشب سوء فهم أو صراع ولو كان شخصيًا بين أفرادها حتى يلقى ذلك بظلاله على الإمام، الذي يحاول كل طرف جره إلى صفه وإلا أصبح من المغضوب عليهم وغير المرغوب فيهم.

وشهدت عدد من المساجد المغربية على مدار الأعوام الماضية وقائع مماثلة وموثقة بالصوت والصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وصلت إلى حد الاعتداء اللفظي أو الجسدي على الإمام ومطالبته بالرحيل، رغم أن الوزير الوصي على القطاع سبق أن أكد من تحت قبة البرلمان، جوابًا عن سؤال حول هذا الموضوع، أن “الجماعة لم يعد لها الحق في أن تعفي أو توظف الأئمة”.

في هذا السياق قال عبد الله توفيق، “فقيه” مدرسة “سيدي أحمد أوموسى” بمنطقة تازروالت، إن “محاولة إقحام أئمة المساجد في الصراعات الشخصية أو العائلية أو أحيانًا صراع المصالح هي ظاهرة لا تقتصر على منطقة دون غيرها، بل هي ظاهرة عامة لأن العلماء قديمًا كانوا يقولون إن ‘الإمام يتكلم فيه الناس ولو كان ابن عباس’، وهذا ما يدل على أن هذه الظاهرة موجودة حديثًا وكذا قديمًا”.

وأوضح المتحدث ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “بعض الجمعيات المسيرة للمساجد تحمل الأئمة والفقهاء فوق طاقتهم، وتحاول الزج بهم في الاصطفاف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، في صراعات بعيدة عنهم وبعيدة أيضًا عن وظائفهم ومهامهم الدينية والعلمية والاجتماعية النبيلة”، مشيرًا إلى أن “هذا الأمر ينطوي على عدم احترام للفقهاء والعلماء”.

وحول أسباب استمرار هذه الظاهرة سجل “فقيه” مدرسة “سيدي أحمد أوموسى” بمنطقة تازروالت أن “السبب الرئيسي هو غياب الوازع الديني والتقوى، لأن من يتقي الله لا يمكن أن يتكلم عن بيوت الله أو يرحل إليها صراعاته، أو أن يطعن في أهلية الإمام وفي علمه”، مؤكدًا أن “هذا الأمر ساهم في خراب عدد من المساجد والمدارس العتيقة بالمغرب”.

وشدد المتحدث ذاته على أن “إمام المسجد هو إمام للجميع، ويجب توقيره واحترامه، غير أن بعض الناس وللأسف الشديد يساهمون بأفعالهم وممارساتهم في تدمير المساجد وتحقير الأئمة والفقهاء، جاهلين قوله تعالى في الآية 114 من سورة البقرة: ‘وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ'”.

من جهته قال خالد التوزاني، باحث في الشؤون الدينية والأدب المغربي، رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي، إن “واحدة من العادات الراسخة في المجتمع المغربي، وتحديدًا في العالم القروي، هي ظاهرة ‘المشارطة’، وهي اختيار إمام للمسجد وخطيب جمعة ومؤذن، يتفق معه أعيان الجماعة القروية أو ‘الدوار’ أو ‘القبيلة’ على أداء هذه المهمة الدينية النبيلة مقابل شرط مُلزم للجماعة، يتمثل في منحه مبلغًا ماليًا كل عام، و’صلة’ عبارة عن مبلغ من المال كل ثلاثة أشهر أو في المناسبات، حسب طبيعة الاتفاق معه، مع منحه جزءًا من المحاصيل الفلاحية التي تشتهر بها المنطقة”.

وأضاف التوزاني، متحدثًا لهسبريس، أن “الجماعة تشترط على الإمام البقاء في الدوار مدة عام لأداء المهام الدينية، التي تتجاوز أحيانًا ما له صلة بالمسجد”، مسجلًا أن “هذه ‘المشارطة’ يتم تجديدها كل عام، وبذلك تكون للجماعة حرية اختيار من يدبر شؤونها الدينية، فهي تملك سلطة الاختيار، كما تملك سلطة طرد من ارتكب مخالفة أخلاقية، فـ’الفقيه’ عند المغاربة رمز للورع والتقوى، ولا يجوز أن يقترف الخطأ”.

وشدد المتحدث ذاته على أنه “رغم جهود وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في إعادة تنظيم الشأن الديني بالمغرب، إذ عملت على تأهيل الأئمة والخطباء والوعاظ، وتكوينهم وتنظيم مهامهم وفق تشريعات قانونية جديدة تمنحهم الكثير من الحقوق والامتيازات، إلا أن بعض المناطق المغربية بقيت محافظة على عادة ‘المشارطة’ ومتشبثة بها، فتختار ‘الفقيه’ الذي يؤطر شؤونها الدينية انطلاقًا من معايير تراها أساسية، مثل ضرورة أن يقوم بتحفيظ أبنائها القرآن الكريم، وأن يشارك في جميع أنشطتها الدينية والاجتماعية، وهو الأمر الذي قد لا يؤديه ‘الفقيه’ ‘الموظف’ الذي ترسله الوزارة”.

وبيّن الباحث نفسه أن “أهالي عدد من المناطق في المغرب يحرصون على أن يكون الإمام متعدد المواهب والقدرات”، مضيفًا: “لا ضرر أن يبقى دعم الساكنة للإمام، وفي الآن نفسه أن يكون تحت إشراف المجلس العلمي من أجل تعزيز تكوينه في رعاية الثوابت الدينية والوطنية، وخاصة تمكنه من خصوصيات النموذج الديني المغربي، حفاظًا على وحدة الأمة ووقاية من التفرقة والاختلاف، خاصة أن الفتوى اليوم أصبحت مؤسسة رسمية من اختصاص المجلس العلمي الأعلى، والفقهاء إنما يدبرون أمور العبادة والسهر على التوجيه والإرشاد. وتبقى القضايا الكبرى يبت فيها العلماء أعضاء المجالس العلمية عبر ربوع التراب المغربي”.

وفي المقابل أكد التوزاني أن “ظاهرة ‘المشارطة’ بإيجابياتها وسلبياتها بقيت قائمة في بعض مناطق المملكة، وتشكل عرفًا اجتماعيًا يصعب تعديله أو زحزحته؛ فرغم الجهود المبذولة لإصلاح وضعية القيمين الدينيين غير أن الجماعة التي تحتضن هذا الإمام أو الخطيب، أي ‘الفقيه’ أو ‘الطالب’ بالمعنى المحلي في المناطق التي تحافظ على عادة ‘المشارطة’، تحرص على مراقبة عمل هذا ‘الفقيه’، وأحيانًا تجعله في موقف حرج في حالة وقوع نزاع بين أعيان القبيلة حول قضية فقهية أو مسألة اجتماعية أو غير ذلك من المسائل التي قد يختلف فيها أعيان الدوار أو الجماعة”.

وتابع المتحدث: “كل فئة تعمل على استمالة ‘الفقيه’ لتبني موقفها، فيخلق ذلك له العداوة مع الفئة الأخرى. وكذلك في فترة الانتخابات قد يمارس ضغط على “الفقيه’ ‘المشارط’ من أجل الدعاية لحزب معين، فيخلق له هذا الموقف نزاعًا مع الأطراف الأخرى، وهكذا يكون عرضة لاستغلاله في تحقيق بعض المكتسبات والتضحية به في حالة لم يخضع لأهواء أعيان المنطقة التي يعمل فيها”، مؤكدًا أن “تعلق وظيفته بوزارة الأوقاف باعتبارها مؤسسة رسمية يمكن أن يشكل حماية لهذا ‘الفقيه’ ومصدرًا للاستقرار والأمن، عوض أن تتحكم في مصيره أهواء بعض ساكنة ومحيط المسجد الذي يعمل فيه”.